لا توجد دولة ما دام أن أهالي قرية بكفر الشيخ يخرجون في مسيرة تضمّ بلطجية؛ للإمساك ببلطجي، ويتم تقطيع يديه وقدميه ورقبته، ثم الذهاب بجثته إلى قسم الشرطة الذي رفض تسلّمها.
لا توجد دولة ما دامت الحرب لا تزال مشتعلة في مدينة جرجا بسوهاج منذ أربعة أيام، وتصل نيران مدفعيتها إلى مقرّات الشرطة، دون أن تستطيع الحكومة إيقاف هذه المهزلة حتى الآن.
وعندما تكون الدولة غائبة؛ فلا تندهش حين تقرأ أن أهالي جرجا اقتحموا مركز الشرطة واستولوا على كل ما فيه من أسلحة، وأطلقوا سراح كل المحبوسين فيه، وأضرموا فيه النار؛ احتجاجا منهم على التقصير في مواجهة الانفلات الأمن.
هذان المشهدان يؤكدان ليس فقط غياب الدولة؛ بل غياب العقل أيضا؛ ففي كفر الشيخ يتم التخلص من بلطجي بالاستعانة بعشرات البلطجية، وهنا قمة العبث؛ لأنك تحارب البلطجة بالبلطجة؛ فإذا قُضِي على البلطجي بهذا الشكل، ففي اللحظة ذاتها يظهر بلطجية آخرون.. ومع الاعتذار للراحل الكبير أمل دنقل، أخشى أن نقول “فخلف كل بلطجي يموت بلطجي جديد”، كما كان يقول أمل: “وخلف كل قيصر يموت قيصر جديد” في رائعته “كلمات اسبارتكوس الأخيرة”.
وفي سوهاج يحتجون على التقصير والانفلات الأمني بممارسة أوضح أشكال الانفلات الأمني؛ فأن تحرق مركز الشرطة وتستولي على كل أسلحته وتُطلق سراح المحبوسين فيه؛ فهذا يشبه كثيرا الانتحار، وبتر العضو للتخلص من الألم، أو للاحتجاج على أداء الطبيب أو هيئته أو طريقة كلامه.
ويبقى مشهد ثالث قد يبدو بعيدا في تفاصيله عن المشهدين السابقين؛ لكنه أيضا دليل على تحلل دور الدولة ومؤسساتها؛ فعندما يذهب مجموعة من الصحفيين إلى مرشد الإخوان المسلمين لكي يقدموا له شكوى ضد الزميل محمد عبد القدوس -مقرر لجنة الحريات ورئيس لجنة القيد الاستئنافية بنقابة الصحفيين- يتهمونه فيها بتأخير قيدهم في جداول النقابة؛ فهذا يعني أيضا موت “دولة الصحفيين” وتحللها، وعدم اعتراف أبنائها بوجودها.
إن الصحفيين توجهوا بالشكوى إلى المرشد لكون محمد عبد القدوس عضوا في جماعة الإخوان المسلمين، وترجمة ذلك الوحيدة أن هؤلاء الزملاء قرروا البحث عن قوة أكبر وأعلى من نقابتهم لكي تحل لهم مشكلتهم، على طريقة “تدويل الأزمات”، أو اللجوء إلى القوى الكبرى لعرض قضايا داخلية وطلب التدخل لحسمها.
والطريف في المسألة أن الصحفيين المحترمين ينتمون إلى صحف حكومية؛ بل وبعضهم في صحيفة الحزب الوطني المنحل، وهذا ليس تقليلا من شأنهم؛ بقدر ما هو توقف عند دراما الموقف؛ فمحررو صحف حكومية يلجأون إلى مرشد الإخوان للحصول على عضوية نقابة الصحفيين.
صحيح أن الزميل محمد عبد القدوس أكّد حرصه على الفصل بين عمله النقابي وانتمائه الإخواني؛ غير أن المشكلة تبقى قائمة، وهي أن الدولة غائبة، أو قل: إن دولة القانون غائبة؛ بدليل ما جرى في كفر الشيخ وجرجا ومكتب الإرشاد.
إذن عندما ينتحر القانون وتسود القوة لا يمكنك أن تتحدث عن قوام دولة.. وعندما ترى كل هذا الحشد من القوات في ميدان التحرير -الخالي من سكانه- بينما حفلات الدم اليومية لا تتوقف في قلب مصر وأطرافها، تأكّد أن هناك خللا ما في الإدارة.