ذكرت في مقالي بالموقع “عيون المعتصمين تكشف ورا مين ماشيين” أن هناك قلة من المعتصمين اختاروا الاعتصام، ولا يحركهم أحد ويتمتعون بالنقاء..
أجريت حواراً مع أحدهم وأنقله بأمانة تامة؛ لنتوقف عند تفاصيله ومعاني كلماته لنفهم ما يحدث بالتحرير ولا نسمح لأحد بتوجيهنا لما يريده.
بدأ كلامه قائلاً: لا أزال في ألف باء سياسة، وأقف كثيراً مع الحركات والائتلافات؛ لأستمع لأحاديثهم وأجلس أكثر مع أناس عندها وعي أو مطالب..
سألته: ألم تلاحظ أن هناك وجوه غريبة عن ميدان التحرير؟
فوافقني وأضاف: بالطبع الأشكال تغيرت كثيراً، ومن الطبيعي ظهور البلطجية، وعلينا استيعابهم فقاطعته: وكيف ستستوعبهم؟
فقال: باكتشافهم؛ فهم يتخفون مرة بصورة بائع للشاي، وأخرى كشاب متجول بالميدان يقول أنا أحفظ الأمن، وهو بلطجي.. وخرج بعضهم للعباسية ولم أخرج معهم؛ فهناك فارق كبير بين المطالبة بأهداف الثورة وشتم المجلس العسكري؛ فأنا مع انتقاد تأخره في تنفيذ مطالب الثورة، وضد الذهاب لوزارة الدفاع وكأننا إسرائيليون ولسنا مصريين، وبقيت بالتحرير وعادوا بعد أن ضربهم الناس وليس الجيش كما يدعي البعض.
وأرى أن سكان العباسية لديهم حق؛ فمن ذهبوا قاموا بتشويه أنفسهم، وجعلوا الناس تتعامل معهم كبلطجية؛ فلو بقوا في التحرير لما اعتدى عليهم أحد؛ ولكن ما داموا قد ذهبوا إلى هناك فـ”يستاهلوا ما حدث لهم”.
قلت: هل توافقني أننا نتعرض لـ”اشتغالات”؟ ففي يوم 8 إبريل عندما أحضروا ضباطاً من الجيش وحرّضوا المتظاهرين على الانضمام إليهم في الهتافات المسيئة ضد المجلس العسكري، كنت وابنة أخي بالتحرير وانضمّت إلينا فتاة، وأثناء سيرنا فوجئت بها تصفع شاباً تحرّش بها، وهو ما لم يحدث أيام الثورة برغم شدة الزحام أكثر من ذلك.
وسألته: لماذا تعتصم؟ فقد أعلنت 38 حركة وحزب أنهم ينظمون الاعتصام، وهل شعرت أن هناك من يستخدمك ويستغل وجودك بالميدان لمصالحه الخاصة، فأنت رقم وقد تؤثر على آخرين لينضموا لثقتهم بك؟
فردّ: يومياً أقول يا رب سامحنا إذا كنا مخطئين أو تسببنا بأي أذى لمصر، وسأعتصم حتى أشعر بالانضباط بالداخلية، ويتم وضع الدستور قبل الانتخابات، وإذا شعرت أن هناك من يتلاعب بي لمصالحه سأعود لبيتي، أو سأعمل خيمة وحدي، وقد حاولوا فعلاً ولم ينجحوا، ومنهم “…..” الذي يقوم يومياً بجمع بعض أنفار ليتحدث معهم في أمور كثيرة؛ كضرورة عرض الموازنة العامة على المواطنين للموافقة عليها، ويلقي الاتهامات في كل اتجاه، ويريد قطع العلاقات بالسعودية لتأييدها لمبارك، ويتكلم لساعات طوال..
فقلت له: أنت تكلمني وكأنك تعرف الحقائق التي أجهلها، وأنك تخاف على الثورة أكثر مني، وفي النهاية أكتشف أنك تخدعني لأنضمّ لحزبك..
وهناك حزب العدل الذي قال أحد الداعين إليه: كل الأحزاب الليبرالية تناهض الدين، ونحن نختلف عنها، فنميل لليمين شوية؛ فإذا كان الاتجاه نحو الدين المتشدد يساوي عشر خطوات؛ فلنكتفِ بأول خطوتين، ويحاولون إرضاء فكرة الدين عند المواطنين.
وأقول لرؤساء الأحزاب والحركات والائتلافات: لماذا لا تبيتون معنا بالميدان؟ فإذا كان أحدكم مريضاً فسألتمس له العذر وأدعو له بالشفاء، أما إذا تعامل معنا على أننا العبيد فسنخسف بهم الأرض.
وأضاف: لاحظت أن الجميع يسعون لمصالحهم، وبعض المعتصمين أشعر أنه كان يريد أن يكون ضابطاً ولم يستطع؛ فجاء للميدان ليكون بالأمن.
وأنا أقوم بتنظيف المكان الذي أجلس فيه مع أصدقائي، وفي الصباح نقوم بلعب الكرة، ونتجاهل المعتصمين الذين نرفض تصرفاتهم؛ سواء كانوا بلطجية أو شباباً غير مهذب..
سألته: ألا تثق أن هناك من يستفيد من اعتصامك سواء رضيت أم رفضت؟
فردّ: أنا مثل إنسان مريض لمدة ثلاثين عاماً، وتمّ منعه من كل أصناف الأكل الشهي والحلويات، وبمجرد أن قال الطبيب: تستطيع الأكل؛ فإذا به يَعُكّ في الأكل، وهذا ما أفعله وسأعتصم بالميدان حتى أشعر أن الثورة أفادتني.
وأنا باعُكّ في كل حاجة، وهذا حقي أن أعُكّ وأتعلم من تجربتي وليس من تجارب الآخرين؛ فإذا كان بيتي يحتاج للنظافة؛ فمن الأفضل أن أنظّفه، وخطأ إحضار أحد لينظفه لي؛ فهذه أول مرة يقول لي أحد نظّف بيتك؛ فلا بد أن أخطئ؛ فحتى لو كانت عقليتي “بايظة”، لا بد أن أخوض التجربة لأتعلم وحدي..
فقلت: ولماذا لا تبحث عن الصواب وتفعله؟ لماذا تصرّ على السير الخطأ؟ والمسألة ليست هي مَن على صواب ومَن على خطأ؟ ولا علاقة لها بالأعمار؛ فأعرف كباراً في السن يتعاملون بمنطق “نحن شطار ونفهم أكثر”، وما يهمهم بأي حوار هو الانتصار للرأي مما يهزم أي نجاح بالكون، وقد غيرت شخصياً قناعات بعد أن ثبت لي أن هناك أفضل منها، أو أنها كانت بناء على معلومات ناقصة؛ فلما اكتملت معلوماتي ووضحت الرؤية غيّرت قناعتي، ولم أدافع عنها، وسعدت فلن أكمل حياتي بقناعاتٍ ثبت خطؤها..
ولا أرى مشكلة إذا وجدت رأياً أفضل من رأيي لأسعد بتبنيه..
فقاطعني: أنا من أنصار الدستور أولاً، وسأظل بالميدان حتى يكتب الدستور أو تُجرى الانتخابات..
ولن أثق بأي حركة تريد السيطرة علينا؛ فمعظمهم أدمغتهم عليها حلاوة طحينية تم تعريضها للشمس!!
وقد تشاجرت مع الكثيرين منهم، واتهمتهم باستغلال الثورة لأطماع شخصية، ومنهم ممثلون لأحزاب التجمع والناصري والعدل، وكل تيار يقوم بتكذيب الآخر، وبعضهم أشكال ضالة ولكنهم لن يجبروني على ترك الميدان؛ فأنا حريص على ترك مسافة بيني وبينهم، ولا يستطيعون القول بأنني وأصحابي منهم أو يحركنا أحد..
فقلت: ولكنهم يظهرون بالفضائيات يتحدثون على أنهم الداعون للاعتصام؛ فقاطعني: أعرف أن معظم المنصّات سبوبة؛ ولكني لا أملك حلاً آخر..
فقلت: ألا تعرف أن الاعتصام بالمئات ليس سلاحاً؛ فهو مثل قصّافة الأظافر؛ فالمليونيات وحدها التي تعدّ سلاحاً للضغط بالمطالب المتفق عليها التي أرى الإصرار على المطالبة بها وعدم السماح لأي قوى بالتشتيت وبالتفتيت.
فقال: أنا أنادي بالدستور أولاً وهو أحد أسباب اعتصامي..
فسألته: وهل من حق مئات فرْض مطالبهم على الملايين.
فقال: احترم رأي الأغلبية واعترض عليه.
قلت: أخاف عليك من التصلب الفكري، وهو أخذ موقف معين والإصرار عليه، والوصول لدرجة الدفاع عن الخطأ في الموقف؛ فما المشكلة أن أخطئ بالتفكير وأغيّره؛ فالإصرار على الخطأ سيقودني للحماقة؛ فلماذا الاستكبار؟!
رد: سامحيني لارتفاع صوتي بالحديث.
فقلت بصدق: أتفهم الحماس وأثق أن الاحترام متبادل..
ردّ: يضايقني جو المؤامرة على الجيش؛ فالمعتصمون هم الذين ذهبوا للجيش ولم يأتِ أليهم..
وسمعت شاباً يقول لي بفخر: لقد تعرّضت للضرب؛ فقلت: هل هذا “السي في” الخاص بك، كلنا تعرّضنا للضرب قبل الثورة وأثناءها..
قاطعته: هل ترى المعتصمين محبطين؟
فردّ: بالطبع الإحباط واضح؛ فالطالب الذي لا يجد المال ليشتري السجائر ويجلس على المقهى عندما يحصل على مؤهله لا يجد العمل، وإذا وجده فلا يستطيع الزواج والإنفاق على بيت الزوجية، فالكثيرون يعانون الإحباط..
وأقول لنفسي: ما دمت سأغرق بكل الحالات، فمن الأفضل الغرق وأنا أقوم بالتجديف ولا أغرق ويدي بجانبي، فالجميع سيغرق، أما أثناء التجديف فهناك احتمال للنجاة.
فثمار الثورة لن تعوضني عن تعبي؛ فعمري 32 عاما، ويقولون سيستفيد بها أولادنا، وأنا لم أتزوج، إذن فأولاد الجيران هم المستفيدون.
الجميع محبطون؛ فالثورة عندما تنجح لن أستفيد، وإذا فشلت فأنا فاشل بالفعل.
سألته: هل تذهب لعملك الحكومي؟ فرد: أذهب لعملي يوميا وبعد انتهائه أعتصم بالتحرير حتى الواحدة مساء، وأذهب للمبيت بالبيت وأستحم وأنام وهكذا، وبالإجازات أبيت بالميدان.. ولكن هناك ناس “……” لا تعمل، ويبيتون في خيام بها مراوح..
فسألته: ومن أين يحصلون على الكهرباء؟
رد: من الأعمدة بالميدان.
قلت: أليست سرقة؟
قال : أرى أنها غلط، ودعك من الحرام والحلال؛ فالمنظر العام سيئ، فهم يقومون بفتح أعمدة الكهرباء ويضعون أسلاكا على الأرض، فيعرضون الناس للخطر؛ فقد يسند شخص على العمود دون الانتباه، أو قد توجد مياه على الأرض بجوار الأسلاك.
وقد تشاجرت مع معتصم بخيمة بها أكثر من مروحة ولاب توب وتليفزيون ودش وكأنه شهريار، ويُصدر البيانات باسم ائتلاف 8 يوليو.. وسألته: هل جئت لتعتصم أم لتصيّف؟! فطردني، وأنا أعتصم ومعي جريدة، أنام عليها أو أضعها على رأسي لحجب الشمس..
ففي الاعتصام لا بد من التقشف، وأرى البعض يرتدي شورت جينز وصوت التليفزيون عالٍ بخيمته فقلت له: وكأنك تتبع خيمة القذافي، وينقصك إحضار سيدات لحراستك!
وأنا أنام على الأرض وهو بداخل خيمته ولا أطلب منه النوم عنده وأتضايق من الصوت العال للأغاني والأفلام التي يشاهدها، وإذا كان يريد متابعة الأخبار فاللاب توب يكفي.
قلت: أعطِ نفسك الوقت الكافي للتفكير، وتذكر ما فعله سكان العباسية أثناء الثورة، فأعطوا الثوار المياه وساندوتشات أثناء توجههم للقصر الجمهوري، وقاموا بتحيتهم وتصدّوا للمعتصمين عندما توجهوا لوزارة الدفاع؛ للمطالبة بإقالة المشير وقالوا: هندخلها هندخلها، وهتفوا بنفاد رصيد المجلس العسكري.
ولم يتغير سكان العباسية؛ ففي الموقفين كانوا داعمين بذكاء للثورة.